يعتبر دور المثقف من الأدوار التي يتجدد الحديث عنها كل فترة، ويطول ويتشعب في نفس الوقت كذلك؛ نظراً لتنامي هذه الأدوار بناءً على المتغيرات التي يعيشها المثقف مع نفسه من جهة، والتي يعيشها المجتمع من جهة أخرى. ويكتسب المثقف مكانته في وسطه الذي يعيش فيه بحسب قدرته على صناعة الوعي وإنمائه، وتوجيه أفراد المجتمع إلى التغيير، وعدم القبول بالركون للواقع السيءوالاستكانة له.
المثقف هو من له حظ من المعرفة، ويستفيد من عالم الأفكار فيما يؤهله للخوض في عالم الأشياء -إن استعرنا تعبيرات مالك بن نبي- لإحداث تغييرات فيه، وإصلاحه فيما يعود بالنفع على أفراد المجتمع. المثقف ليس فيلسوفاً يعيش مع الأفكار وحدها، ويتأمل في كنهها. كما أنه ليس ناشطاً سياسياً تستنفذه الأحداث اليومية، ويضيع بين مجرياتها. المثقف هو من يمتلك العين الناقدة للمؤسسات والأفكار السائدة، والتي تعتبر كذلك من أهم أدواته في سعيه لإصلاح المجتمع والارتقاء به.
في مجتمعاتنا نعاني من نخب مثقفة ترضخ لمعارفها ولا تتجاوزها، وهو ما يجعلها محتجزةً في أُطرها الأكاديمية، ولا تستطيع الانعتاق من ربقتها. لا يعني ذلك إبراز التخصصية والحياة الأكاديمية بطابع سلبي، بقدر ما يعني التأكيد على الفرق بين المثقف الذي يسعى لنفع مجتمعه والانخراط فيه بشكل مباشر، وبين الأكاديمي في جامعته؛ فالأول يتعامل مع المعارف كوسيلة ومرحلة لغاية يتطلع لها وأهداف يسعى لتحقيقها على عكس الثاني.
علاقة المثقف بتخصصه علاقة تكتسي بنوع من الوعي بضرورة التخصص في هذا العصر، وفي نفس الوقت بضرورة عدم الانغماس في جزئيات وحيثيات هذا التخصص على حساب القضايا العامة التي يدافع عنها المثقف ويدعو لها. هي إذاً علاقةٌ يسعى فيها المثقف إلى التخفف قدر الإمكان من حمولة التخصصية السلبية، والتي تَحصر من لا يكون واعٍ بها في جوانب وزوايا تعيقه عن استكمال مهمته كمثقف مشتبك بالحياة العامة والشأن العام.
من المعضلات الأساسية التي يجدر على المثقف التنبه لها في سعيه لنفع مجتمعه؛ عدم العيش خارج سياق الزمان والمكان للمجتمع، والحذر من محاولة اجترار أفكار نشأت ونمت في مجتمعات أخرى لها أسئلتها واعتباراتها الخاصة. فالمجتمع ينتظر من مثقفه طرح حلول وأفكار تنسجم مع أفكاره واهتماماته، وترتبط بشكل مباشر مع ما يعايشه ويخْبره.
عدم امتلاك المثقف في طرحه للرؤية الأصيلة النابعة من وجدان المجتمع واحتياجاته، وعدم وعيه بسياقه التاريخي والجغرافي تجعله يعيش بعيداً عن المجتمع؛ وبعبارة أخرى أن يعيش “في برجه العاجي”.في المقابل، على المجتمعات أن تمارس الرقابة على مثقفيها، وألا تمرر أخطاء نخبها، بل وتقوم بتعريتهم عند أي موقف يُبرز خذلناهم ويبين عدم استحقاقهم للدور الذي تصدروا له.
مجموعة غير قليلة من مثقفينا مصابون “بمتلازمة ميدان تيانانمن” كما يسميها عمرو عثمان ومروة صبري في كتاب لهما بنفس الاسم. تتجلى هذه المتلازمة في شكل سعي الطبقة المثقفة تمييز نفسها عن المجتمع، بل والاعتقاد بأفضليتهم على الآخرين في كثير من الأحيان. يؤكد ذلك ضرورة ارتباط تحقيق المثقف لأي أثر حقيقي في مجتمعه بمدى قدرته على احتواء مختلف الأفراد في المجتمع، بعيداً عن النخبوية وأية أفكار إقصائية.
المثقف الحقيقي لا يقبل على نفسه بأن يكون بوقاً لغيره، ولا أن يبيع أمانته العلمية والعملية بثمن بخس. يستذكر بشكل دائم هذه الأمانة التي تقلدها بنفسه وقلده إياها المجتمع، مما يحتم عليهالاستعداد لدفع ثمن عدم القبول بالتنازل عن هذه الأمانة. ويعتبر المثقف خائناً عند تنصله من مهامه التي تصدّر لها في أول أمره، وعندما يساهم في خلق ثقافة التخلف والرجعية في المجتمع، إلى جانب وقت عدم اضطلاعه بالدور المنوط به، والذي لا يتسق مع تطلعات المجتمع واحتياجاته الفكرية والثقافية. كما أن وقفه ضد إرادة المجتمع الذي ينتمي له يعتبر تجلي آخر لتمظهر خيانته.
المثقف واعٍ في تعامله مع سيرورة الزمن؛ فهو يعيش حاضره ولا يغرق فيه، ويستفيد من التاريخ وتجاربه ولا يسمح لنفسه بأن يُؤسر فيه، ويتطلع للمستقبل ويستشرفه مع علمه بوجود التحديات التي تعيق الآليات الاستشرافية. المثقف واعٍ بالفضاء التداولي الذي يعيش فيه وبالأسئلة المعرفية والاستشكالات التي تطرح في حناياه، يستفيد منها فيما يخدم أهدافه ورؤاه، ويثري الجوانب التي يرى أنها في حاجة للإثراء والإضافة. المثقف واعٍ بالوسائل المختلفة التي عن طريقها يقوم بتوصيل أفكاره، وتحقيق التغيير الذي يسعى له. المثقف واعٍ بأهمية التراكم المعرفي والتراكم العملي؛ مما يحدوه بشكل دائم إلى التعاون مع الآخرين في سبيل تحقيق الأهداف التي يسعى لها، وتجسيد الأفكار التي يدعو لها على أرض الواقع.