لم يبرز دور اللغة بوصفها مكونًا اجتماعيًا إلا حديثًا، وذلك حينما ظهر علم اللغة الاجتماعي (Sociolinguistics). وقبل ذلك، لم تُدرَس اللغة إلا ضمن مستوياتها التقليدية؛ الصوت والصرف والنحو (التركيب) والأدب، … إلخ. وبموجب هذا الأمر، كانت اللغة نظامًا مغلقًا. فعلم اللغة الاجتماعي هو من أَكسبها بعدًا آخر، وعدّها نظامًا مفتوحًا يؤثر ويتأثر، ويساهم في التغييرات الجذرية في بنية المجتمعات.
وقد استوقفني قول لعالم اللغة الألماني هارلد هارمان Harald Haarmann، ذكر فيه عددًا من وظائف اللغة: فإضافةً إلى إنشاء شبكةٍ للمعرفة حول العالم، فإن اللغة تستخدم أيضًا للتعبير عن المشاعر والاتجاهات والقيم، لقول الأكاذيب، للمراوغات، للشتم، للإهانة، للمديح والتوبيخ. واللغة وسيلة تصنع أشياء للناس، وتبني ردود فعل إيجابية وسلبية. واللغة تمكن الشخص من تجربة الفرح مثلًا، وسماع اعترافٍ بالحبِّ، أو شعوره براحة باله أو بالها، مثلًا، من خلال كلمات التعزية أو الصلاة. ويمكن أن يكون للكلمات تأثير مدمّر، وذلك عندما تكشف صحيفة عن إشاعة حول فضيحة مزعومة، أو يمكن للكلمات أن تؤثر في وجود مجتمعات بكاملها، كما هو الحال في الإعلان عن الحرب، واللغة وسيلة تعبر عن نوايا الإنسان، ويمكن أن تكون نوايا مستعمليها إيجابية ينتج منها انسجامًا في التفاعل، أو سلبية ينتج منها إنشاء التحيز والآراء الثقافية المسبقة.
فاللغة هي أساس الفعل الاجتماعي، وإنَّ أي سلوك فردي أو جماعي لا يمكن أن يكون خارج سياق اللغة، وبذلك فهي المعبِّرُ الفعليُّ عن القوة والسيادة التي يظهرها المشهد الواقعي الذي يرتبط بالمجتمع وتوجهاته. ووفق ذلك فاللغة هي الواقع وهي أداة تعزيزه.
ولعل الأهم من ذلك أن اللغة في حقيقتها حدثٌ اجتماعيٌ بامتياز، وكل حدث اجتماعي إنما يحصل في ظروف سياسية وتاريخية واجتماعية. لذلك، ينبغي علينا فهم هذه الظروف جيدًا بوصفها سياقًا تتحرك فيه اللغة وتحرّك غيرها وتقود تفاعلات الأفراد مع القضايا المختلفة، وتظهر توجهاتهم وتكشف عن آراءهم، وتشي بما يضمرون في صدروهم وفكرهم. وبناء على ما سبق، فاللغة أهم المؤشرات التي تتبلور من خلالها الهوية الفردية والجماعية، كما أنها تؤثر في علاقة المجموعات العرقية المختلفة.