مسؤُوليّات الدّولة المُستحدثة أمامَ الثَّورةِ الرَّقميَّة

تقومُ الدَّولة على ركائزَ أساسيَّة وهي الأرضُ والسُّلطةُ والشَّعبُ واكتساب الشَّرعيةِ أيضًا، وتُعتبرُ الدَّولةُ بكيانها الثَّابت مسؤولةً بصفتها الاعتباريَّةِ عن رعاية مواطنيها، والمقيمين على أراضيها، رعايةً تشمل كافَّة جوانب الحياة الأمنيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والسِّياسيَّةِ وغيرها من الجوانب المتعلِّقة بحقوق الإنسان وما يتبعُها.
إذًا فالدَّولةُ أمامَ مسؤوليَّاتٍ أساسيَّةٍ تتعلَّقُ بأصل وجودِهَا، من حماية أراضيها وحدودِها، وحمايَةِ سُلطتها وسِيادَتِها، والأهمُّ مسؤوليَّتها عن حمايَةِ شعبِهَا ومواطِنِيها، ونشيرُ أنّ مسؤوليَّةَ الدَّولةِ أمام حماية أراضيها وسيادَتِها مسؤوليَّةٌ تقليديَّةٌ على مدارِ العقودِ منذُ نشوءِ الدُّولِ وحتَّى يومنا هذا، أمّا بالنِّسبة لمسؤوليَّةِ الدَّولةِ تجاه شَعبِها فهي تحتَ منظورٍ متطوِّرٍ وخاصَّةً في ظلِّ تَطَوُّرِ الثَّورةِ الرَّقميَّةِ وهذا هو محورُ المقال.
أشارت دِراسةٌ من مُنَظَّمةِ الأممِ المُتَّحدَةِ أنَّ الثَّورةَ الرَّقميَّةَ والتطوُّرَ الهائِلَ للتكنولوجيا يُعتبرُ إنجازًا كبيرًا على الصَّعيدِ العالميِّ، وقد قدَّمَ خدماتٍ كبيرةً لشعوبِ العالمِ أجمع، لكن بالمُقابل وَضعَتِ الدُّولَ أمامَ تحدِّياتٍ كبيرةٍ في ضبطِ سلوكيَّاتِ مواطِنِيهَا وحمايَتِهم من التَّأثُّرِ بأفكارِ جماعاتٍ متطرِّفَةٍ، والأخطرُ من ذلك هو مسؤوليَّتُها في حمايةِ أبناءِ بلدِهَا من خطورةِ التنقّلِ والسَّفرِ للانضمام إلى صفوف الإرهابيِّين والمتطرِّفين.
لعلَّ الحالة الَّتي تَتَصدّرُ المشهدَ على هذا الصَّعيد هي ما قامت به داعش من غزوٍ لفكرِ الشَّبابِ العربيِّ والغربِيِّ من خلالِ الثَّورةِ الرَّقميَّةِ، والغُرَفِ المُظلمةِ عبر مواقعِ التَّواصُلِ الاجتماعيِّ، واستقطابِ الشَّبابِ والنِّساءِ والأطفال من مُختَلَفِ بقاعِ الأرضِ، وتجنيدِهِم ضمنَ صفوفها. حيثُ وبموجب التَّحالُفِ الإسلاميِّ العسكريِّ لمكافحةِ الإرهاب بلغَ عددُ المنضمِّينَ إلى هذا الفصيل المتطرّف الإرهابيّ أكثر من 40 ألفَ شخصٍ من أكثر من 120 دولة.
أمامَ هذه الأعدادِ تأتي الدِّراساتُ التَّحليليَّةُ حولَ أسباب ميولِ هذه الأعدادِ الكبيرة للانضمامِ بصفوفٍ إرهابيَّةٍ مُتطرِّفَةٍ، لكنَّ الجانِبَ الأهم يُطرح بالتَّساؤل: أين رقابةَ الدُّولِ على هؤلاء الأشخاص؟ ولماذا لم تمنعَهَم من ذلك، أو لم تقدِّم لهم الحماية من وصولهم لهذا الحال؟
استيقظت الدُّولُ أمامَ مسؤوليَّتها متأخِّرةً، فعلى الصَّعيد الأوربيِّ أشارت دراسةٌ للمركز الأوربيِّ لمكافحةِ الإرهاب والتَّطرُّفِ أنَّه تمّ وضعُ استراتيجيَّة لمواجهةِ هذه الظَّاهرة، والحدِّ من ظاهرة الذِّئابِ المنفردةِ، الَّتِي ظهرت بسبب فكرِ داعش المُتطرّف، والَّتي مفادُها أنَّ كلَّ شخصٍ مكلّفٌ بأن يقومَ بأعمالِ العنف في موقعِهِ وحسبَ قدرتِهِ دونَ العودةِ إلى تعليماتٍ قياديَّةٍ، كما ركّزت الدِّراسةُ بشكلٍ خاص على حمايةِ الأفرادِ من تأثُّرِهِم بالفكرِ المُتَطَرِّفِ، وتفعيلِ التَّنبُّؤِ والوِقاية قبلَ الوقوعِ في الأمر، مستخدمةً الذَّكاءَ الاصطناعيَّ في ضبطِ المحادثاتِ وما يجري في الغُرفِ المُظلمةِ، كما استخدمتِ الذَّكاء الاصطناعيَّ في إزالةِ كلِّ مقاطِعِ الفيديو التَّرويجيَّةِ التي تؤثّرُ على فكرِ الشَّبابِ تجاهَ التَّطرُّفِ.
وعلى الصَّعيدِ العربيِّ وجدنا تحرُّكًا ملحوظًا لعددٍ من بلدانِ الشَّرقِ الأوسطِ تجاه تعزيزِ مسؤوليَّتِها في حمايةِ أبناءِ شعبِها من الانغماسِ بالفكرِ المُتطرِّف، وتحديدًا المملكة العربيَّة السعوديَّة، الَّتي أسّست مركزَ اعتدال”المركز العالميَّ لمُكافحةِ الفكر المُتطرِّف”، لنشرِ التَّوعيةِ في أوساطِ الشَّباب وإجراءِ دراساتٍ تحليليَّة مفادُها حمايةُ المواطنين من الميول نحو هذا التَّيار. وكذلك في دولة الإماراتِ وجدنا تأسيسَ مركز “هداية” لِتَعزيزِ حمايَةِ المواطِنِينَ من الفِكرِ المُتُطرِّفِ، الَّتِي ذهبَت إلى توسِيعِ عَمَلِهَا على المجتمعِ الغربِيِّ، وذَهَبَتْ إلى وضعِ مُقترحاتِ قوانين لدولة الإماراتِ لحمايةِ ومواجهةِ من ينغمسُ في مستنقعِ التَّطرُّفِ .
من وجهَةِ نظري أجد أنَّ مسؤوليَّةَ الدَّولة وجُهودَها يجب أن تكونَ قبلَ وقوعِ الكارثة وانخراطِ مئاتِ آلافِ البَشرِ معَ المتَطَرِّفين، لكنَّ تحرّكَ بعض الدُّول مثل السَّعوديَّةِ والإماراتِ والعِراق وقطر وتونس لتعزيزِ مسؤوليَّتِها حولَ حمايةِ المواطنينَ من تأثُّرهم بالفكرِ المتطرِّف في ظلِّ الثَّورةِ الرَّقميَّةِ يُعتبرُ خطوةً إيجابيَّةً على صعيد مهام الدَّولة، ولكن تبقى المسؤوليَّةُ أكبر من هذه الجهود وتبقى النَّتائجُ هي الَّتي تحكمُ على ثمرةِ هذه الجهود، وخاصَّةً أنَّنا وفي شهر تموز 2024 وتنظيمُ داعش مازالَ ينشطُ في عدّةِ مناطقَ من الشَّرقِ الأوسط.
فهل ستنجح الدُّول الَّتي بادرت لحمايةِ مواطنِيها في حمايَتِهم من تأثّرهم بالفكرِ المُتطرّف في حال نشطَ التَّنظيمُ بالفترات القادمة؟
من جانب آخر -وبِكُلِّ أسىً- نجد تقاعسًا واضحًا ملموسًا من عشراتِ الدُّولِ العربيَّة والغربيَّةِ في وضعِ أيِّ تشريعاتٍ أو جهودٍ لحمايةِ مواطنيها من هذه الظَّاهرة، فأينَ جهود دولة لبنان وسوريا واليمن ومصر وغيرها، وأيضاً العديد من الدُّول الأوربيَّة باتت تعتبرُ أنّ ظاهرةَ التَّطرّف انتهت تجاه تنظيم داعش معتقدينَ أنّ التَّنظيم قد تمّت هزيمتُه من عام 2019، ولكنَّ الحقائقَ والمعطياتِ تشيرُ إلى غير ذلك.
نهايةً نذكر أنَّ الدَّولة لم تَعد حماية حُدودِها وفرز جنودها على الحدود هي المهمّة الأساسيَّة لها، بل إنّنا في ظلِّ مسؤوليَّةٍ مُستجدَّةٍ للدُّولِ ناتجة عن الثَّورة الرَّقميَّة، والّتي تحوّل العالم إلى قريةٍ صغيرةٍ تتجسَّدُ في حمايةِ أبناء شعبها، وحماية فكرهم وتعلّقهم بأوطانهم. وهنا لابدَّ من تسليطِ الضوءِ على منظّمة الأمم المتَّحدة ودورِها الأساسيّ بالضغط على الدّول لبذل جهود على هذا الصعيد، على اعتبار أنّ حفظَ الأمن والسِّلم الدُّوليين من أسمى مهامِ تأسيسِها.
ونهايةً نقول -كما أشار الدكتور عزمي بشارة في كتابة “مسألة الدولة”- إنَّ مسارَ الدَّولة الحديثة يجب أن يكونَ في تقديمِ الخدمات لمواطنيها، وتقديم الاستقرار لهم، والحياةِ الكريمةِ، والحمايةِ الفكريَّةِ والنَّفسيَّةِ، وألّا تقوم على مبدأ المحاسبَةِ فقط.