يتكون التاريخ من مقومات عديدة، تصنع بنيته، وتحدد مساره، وتصف متغيراته، وتتنبأ بالمؤثرات التي يمكن أن تتحكم بتلك المقومات. وربما أول ما يتبادر إلى أذهاننا أن التاريخ مكون حضاري، وخليط من هوية وثقافة وأحداث، تصارعت وامتزجت عبر حيز زماني ومكاني.
إن دراسة التاريخ اللغوي في فلسطين توجب علينا، بدايةً، تحديد جغرافيّة فلسطين، ثم بيان المؤثرات التي أحدثت تغيّرات في بنيتها الاجتماعية والسياسية، فضلًا عن بنيتها الجغرافية، ففلسطين هي جزء من بلاد الشام التي تضم سوريا والأردن ولبنان وفلسطين، وهي بوابة مصر من الجنوب، وجزء رئيس من الساحل الشرقي للبحر المتوسط، ويحدها الأردن من الشرق، وسوريا ولبنان من الشمال، وهي جزء أصيل من المنطقة العربية عمومًا.
إن ما يدعو إلى تأمل التاريخ اللغوي الفلسطيني ليس موقعها أو مكانتها الدينية والحضارية فحسب، بل إن هذا، في الجانب اللغوي، ليس عنصر تغيير كبيرًا، إن كان الصراع والتقلب الحضاري في حيز صغير إقليمي أو محلي، ولكن الذي يدعونا إلى الاهتمام بالتاريخ اللغوي لفلسطين هو الحراك الثقافي والهوياتي الذي يحدث في تلك البقعة، والذي اضطرب وامتزج وتغيّر مرات ومرات مع جريان الأيام. وبخصوص الثقافة والهوية والعلاقة بينهما في أرض فلسطين، فهي علاقة مختلفة تمامًا عن غيرها من البقاع؛ كون تلك البقاع تشهد غالبًا حالة من الاستقرار في بنيتها الاجتماعية وأعرافها وتقاليدها، فضلًا عن التجانس في العرق والمنشأ. وإن كانت الهوية الثقافية لِكثير من المجتمعات قد حققت استقرارًا، فإن الهوية الثقافية الفلسطينية ما زالت تضطرب وتتحرك؛ كون الواقع الذي يحوي الفلسطينيين واقعًا مضطربًا، لم يسكن أو يهدأ أو يتيح مجالًا للاستقرار في الهوية الثقافية والبنية الاجتماعية التي تحتضنه. وبناء عليه، فإن اللغة ليست خارج هذا السياق، فهي الأخرى في حالة حراك واضطراب تتقلب مع الفلسطيني وتتحرك معه أينما حلّ وأينما رحل.
لقد تعرضت فلسطين حديثًا إلى احتلال من طرف بريطانيا ثم تلاه احتلال من طرف (إسرائيل). تلك الدولة الوليدة التي أعلن إنشاؤها أول مرة عام 1948م، وقد مثّل هذا التاريخ نقطةً فارقةً في تاريخ فلسطين الحديث، وعُدّ حدًا فاصلًا لفترتين مختلفتين في تاريخها. وليس المقصود بالاختلافِ اختلافَ المحتل واختلافَ الحقب الزمنية، ولكن المقصود هنا ما له وقع حاسم في واقع الثقافة والهوية واللغة. فالمجتمع الفلسطيني، في هذا اليوم، فقد وحدته واستقراره، ولجأ إلى دول قريبة وبعيدة، وأصبح حينها يعاني انقسامًا في الهوية الثقافية، وأحيانًا انقسامًا لغويًا، بسبب لجوء عدد من المهجّرين واللاجئين إلى دول لا تنطق اللغة التي ينطقها الفلسطيني. وقد عدّ الفلسطيني خروجه، حينها، خروجًا مؤقتًا وفقًا للوعود والإجراءات التي كانت تحيكها غرف السياسة الدولية والإقليمية. وهذا الواقع المؤقت الذي سيطر على روح الفلسطيني في الشتات ترك أثرًا عميقًا في الهوية والثقافة وأسلوب الحياة، وكذلك التعاطي مع اللغة على نحو قليل؛ كون الفلسطيني قد انتقل من مقر إقامته الدائم (فلسطين) إلى إقليم طارئ عليه وعلى ثقافته وهويته.
ومعلوم لدينا أن الهوية الثقافية والاستقرار اللغوي ينبع من حياة معيشية مستقرة، في بيئة جغرافية معينة، وفي دولة ذات مؤسسات، لها السيادة على الأرض والواقع. وانطلاقًا من هذا المفهوم، سعى الفلسطينيون – سواء الذين هُجِّروا قسرًا، أو من بقي يرزح تحت الاحتلال – لإنشاء واقع معيّن، يتيح لهم الحفاظ على فلسطينيتهم في ظل واقعٍ عربيٍ مهزومٍ، وتآمرٍ دوليٍ مدبّرٍ. وكان هَمُّ الفلسطيني، في ظل ذلك، الصمود بفلسطينيته وثقافته وهويته الوطنية ولغته أمام تلك التحديات، التي تفرض عليه النضال والمكابدة في سبيل إبراز تلك الهوية.
بدأ الفلسطينيون بعد إفاقتهم من الصدمة والهزيمة المرّة بالبحث عن هويتهم بين ركام ثقافة مختلفة، وواقع يرى فيهم أقليّة تعيش وقتًا قصيرًا، لكنَّ الفلسطينيَّ ظلَّ محافظًا على موروثه الذي حمله من وطنه، وهو ما ورثه من أجداده الذين لم يروه؛ بحكم الموت والقضاء السابق لهذا الواقع الجديد، فالهوية الفلسطينية، بين هذا وذاك، انتقلت من الاستقرار في فترة ما قبل 1948، إلى هوية ثقافية تواجه مشروعًا صهيونيًا، من أولوياته؛ النيل من هذه الثقافة وإبادتها. ثم بعد ذلك البحث عن الهوية بين واقع الانهزام في دول المنافي واللجوء. وخرج من ذلك الواقع تيارٌ هوياتي ثقافي مقاوم، يحملُ مشروعًا وطنيًا متدحرجًا، يعمِّقُ قيمة الهوية الفلسطينية في نفوس الأجيال المتوارثة، ويعيد البوصلة إلى الوجهة الصحيحة كلَّما حرفها الاحتلال الإسرائيلي ومشروعه الذي يستهدف هوية الفلسطينيين الثقافية.
بناءً عليه، إن الواقع اللغوي الفلسطيني جزءٌ لا يتجزأ من الواقع الثقافي والهوياتي الذي لا يمكن أن يحتجز في عقولٍ، أو يكونُ حكرًا على وجدانٍ معيَّنٍ، وفكرٍ خاصٍّ، وفلسفةٍ حصريّةٍ، ولكن هذا الواقع يمكن أن يُقرأ في معناه التاريخي المتدحرج، وفي مواقف الفلسطينيين قديمًا وحديثًا قبل الاحتلال وبعده. ومن الضروري تتبُع أبعاد القضية الفلسطينية للنظر إلى التطورات التي حدثت على صعيد مواجهتها المحتل الإسرائيلي وممارساته في حقها؛ لأن ما تتعرض له القضية الفلسطينية يمسُّ كل ما فيها. ومِن ثمَّ، فإن الهوية الثقافية واللغة سينالهما الحظ الأوفر من المواجهة، وهذا يتطلّب من الفلسطينيّ فهم العلاقة الجامعة بين اللغة والهوية الثقافية والاجتماعية في ظل صراعٍ لغويٍّ عميقٍ بين لغةِ محتلٍ دخيلٍ، ولغةِ شعبٍ متجذرٍ أَصيلٍ.