الفضاء السيبراني ليس ملكية مشتركة

لن يَنسى العالم عام 1957، حين كانَت كل الأنظار مُتوجّهة إلى عالمٍ خارجيٍ مَجهولٍ غريبٍ، نتيجةً لاطلاق الإتّحاد السُّوفياتي السَّابق أوَّل قَمر صِناعي إلى الفضاء الخارجي؛ وكذلك لَن يَنسى العَاملُون في الحقلِ القانوني الجُّهود التي بُذِلت في سَبيل تَنظيم التّصرّفات الدُّولية المُتعلّقة بهذا الفَضاءِ مِن أجل تَفادي الفَوضى التي يُمكِن أن تَحصُل فِيما لو بقِي خَارج الإطار القانوني الدولي. كَما لا يُمكن لسُكّان الكُرة الأرضيّة نِسيان المرَّة الأولى التي استخدَموا فيها شبكة الإنترنت والدّهشة التي اعترَتهم. ولَكن إذا كَان تَنظيم الفضاء الخَارِجي حَصل بالفعل مِن خِلال تَرتيب مَسائله القانونية في مُعاهداتٍ دُوليةٍ تتّسم بِصفتها الإلزامية، فإنّ تَنظيم الفضاء الجَديد الأكثر تعقيدًا وتشابُكًا وتطوُّ- أي الفضاء السيبراني- يَبدو أمرًا صعبًا وبَعيد المنال.
هَذا الفَضاء، الذي يُمثّل البِيئة التي يَحدُث مِن خِلالها الإتّصال الإلكتروني وتَخزين البَيانات وتَعديلها وتَبادُلها، عبر شبكاتٍ مُترابطةٍ من البُنية التّحتِية للمَعلومات والإتّصالات، بِما في ذلك الإنترنت وشبكات الاتّصالات وأنظِمة الكمبيوتر، ليسَ وَليد عَمل فِقهي أو دُولي أو تِقني، وإنّما ظَهر للمرّةِ الأولى، عام 1982، في روايةِ خيالٍ علميٍ. ومَع الوَقت، انتقل مُصطلح “الفضاء الإلكتروني أو السيبراني”، بِشكلٍ تَدريجيٍ وَواسعٍ من عَالم الخَيال العِلمي، وتَطوّر استخدامه ليُصبِح مُصطلحًا مِحوريًا ضِمن إطارٍ آخرٍ. إذ تَحوّل، مع التطورات العلمية والتكنولوجية، إلى مجالٍ عالميٍ جديدٍ يسمح بالتفاعُل بين مختلف الجهات الدولية وغير الدولية، له تأثيرات اجتماعية وسياسية واقتصادية داخلية وخارجية وغيرها. ولَكن، إضافةً إلى الجَوانب والمزايا الإيجابية للفَضاء السيبراني، والتي أدّت الى إدخال تطوُّرات لا تُحصَى على حَياة الإنسان، ظَهرت إستخدامات أُخرى غَير سِلمية لِهذا الفَضاء المُتشعِّب الإتجاهات، نتيجةً لاستغلاله كَساحة جَديدة لِتحقيق غاياتٍ دُوليةٍ وفرديةٍ خاصّةٍ. اذ خلال سنة واحدة فقط، وتَحديدًا في الفترة المُمتدّة من شهر حزيران 2022 ولغاية شهر حزيران 2023، واجَهت أكثَر من 120 دَولة هَجمات إلكترُونية، وتَصدّرت أوكرانيا وإسرائيل وكوريا الجنوبية وتايوان قائمة الدُّول الأكثر استهدافًا، وفقًا لتقرير صَادر عن شركةِ مايكروسوفت. وبِحسب دِراسة أَجرَتها شرِكة Cybersecurity Ventures عام 2023، حصَل في كل 39 ثانية هجوم إلكترُوني، أي مَا يُعادل 2200 حالة يوميًا. وهذا يَعكس تَزايدًا مُقارنة بالبيانات التي جُمِعت في عام 2022، حيثُ كانَت التقارير تُشير إلى وُقوع هجوم كل 44 ثانية. وتُثير هذه الأرقام مَخاوِف المُتخصِّصين في هَذا المجال، الذين بَاتوا يُواجهون تهديدات مُتزايدة التّعقيد تمّ تصميمُها للتّحايُل على برُوتوكولات الأمن السِّيبراني، كما بَاتت تُثير التساؤُلات حَول طَبيعة الفضاء السِّيبراني ومَدى خُضوعه للقانون الدولي العام، لاسِيما في ظل اعتبَار العَديد من الدُّول أنّ هذا الفَضاء هو جُزء من المَجالات العالمِية المُشتركةِ.
في الواقع، نظرًا لحَداثته ولِخصائصه ولاختِلاف الدّراسَات والأبحاث التي تَناوَلته، غالبًا مَا يُنظَر إلى الفَضاءِ السِّيبرانيِ على أنّه فَضاء حُرّ، لا يَخضَع لأية قيودٍ قانونيةٍ. إذ يَصِف العَديد مِن الباحثين والجِّهات الدُّولية الفَضاء الإلكتروني بأنّه التُّراث المُشترك للإنسانية أو المَجال المُشترك الذي يَخرُج عن سِيادة الدُّول، مثل أعالي البِحار. وبِصفته مَجالًا مُشتركًا، فهو يَتشابه مَع باقي المَشاعات العالمية في العَديدِ من الخَصائصِ، أبرزها أنّه لا يَخضع لسُلطةِ جِهاتٍ مُعيّنةٍ، بَل يتمّ تَنظيمه بِشكلٍ جَماعيٍ مُشترَك، ممّا يَسمح للجهات الحُكومية وغير الحُكومية بالوُصول إليه والإستفادة مِنه لأغراضٍ اقتصاديةٍ وسياسيةٍ وعلميةٍ وثقافيةٍ وغيرها. كذلك، إن إبقائه على حالِه يَسمح بالإستفادَة منهُ بِشكلٍ أفضل، فيما لو تَمّ تَقسيمه إلى أجزاءٍ أو مجالاتٍ أصغَر. فالفضاء السيبراني، وفقًا لأنصارِ هذا الاتّجاه، يَجب أن يبقى مفتوحًا، مُشتركًا، لامركزيًا، حُرًّا مِن أيّة عوائقٍ قانونيةٍ. وقد اعترف القانون الدولي بعددٍ من المشاعات العالمية مثل أعالي البحار وانتركاتيكا.
إلّا أنّه لا يُمكن التّسليم بهذا الإتجاه، ذلك أنّ تَصنيف مَجال أو مَساحة مُعيّنة على أنّها مُلكية مُشتركة لا يَعني أنّها غير خاضعة للقواعد القانونية؛ إنّ ما يَعنيه ذلك، هو أنّ الدُّول قد وَضَعت قواعدًا مَكتوبةً أو غير مكتوبةً، تُنظِّم بِمُوجبها هذا المَجال، وتُحدِّد حُقوقها وواجِباتها، وأنّها اتّفقت على مُمارسة سُلطاتها عليه بصورةٍ مُشتركةٍ. كل ذلك يَسمح بالقول، أنّه حين تتَّفق الدُّول على تَنظيم المَجال المُشترَك، تَكون قد أخضَعت هذا الأخير إلى قواعدٍ قانونيةٍ مُحدّدةٍ، وهو ما لم يَحصُل في حالة الفضاء السيبراني. إذ لم تُبيِّن مُمارسات الدُّول والإتفاقيات وكافّة القرارات والتّقارير المُتعلّقة بالفضاء الإلكتروني، وجود اتجاه نحو اعتبار هذا الأخير مساحة مشتركة.
بالإضافة إلى كُل ذلك، هُناك اختلافات عَديدة بَين الفَضاء السِّيبراني والمَجالات العَالمية المُشتَركة. فَهذه الأخيرة مَوارد طَبيعية، لها حُدود جغرافية -غَير مُحدّدة بشكلٍ دقيقٍ- وإنّما مَعروفة، والهَدف الأساسي من إدخالها ضِمنَ إطار المُلكية المُشتركة حِمايتها ومَنع استنفاذها، نظرًا لأهَميّتها الحَيوية للكائناتِ الحيةِّ وعدم وُجوب مَنع أي دولة من الإستفادة منها. في المُقابل، إنّ الفضاء السيبراني هو مَجال من صُنع الإنسان أي مَورد اصطناعي، لا حُدود جغرافية مَلمُوسة له، ولا يُشكّل مَوردًا حَيويًا يَجب العمَل على مَنع استنفاذه، بل على العكس من ذلك، طَالما وُجِد الإنسان وُجِد هذا الفضاء وتَطوّر. وأخيرًا، إنّ الفضاء السّيبراني قائم على بُنيةٍ تَحتيةٍ ماديةٍ مَوجودة داخل أقاليم الدُّول، تَعمل على صِيانتها بصورةٍ مُستمرّةٍ، وبالتالي هي جزء من مُلكيتها خلافًا للمسَاحات المُشتركة.
من هُنا، يُمكن التّأكيد على أنّ الفَضاء السِيبراني لا يُشكّل، من وُجهة القانون الدولي، مُلكية مُشتركة. فالنّشاطات السّيبرانية تحصُل حكمًا في إحدى المَجالات الثلاثة البرية والبَحرية والجَوية، وبالتالي تَحكُمها القواعد القانونية التى تَرعى هَذه المَجالات. ممّا يَعني أنّ أي تَصرُّف يَحصُل عَبر الفضاء السّيبراني يَجب أن يَكون مَشروعًا ومُطابقا للقواعد القانونية الدولية والوطنية.