لا يختلف اثنان على قدرة النظرية الواقعية في تفسير العلاقات الدولية، ورغم بعض النقائص التي تشوبها إلا أنها تبقى النظرية الأقرب لتفسير القضايا الدولية وخاصة فيما يتعلق بالفضاء السيبراني، لماذا الفضاء السيبراني بالضبط؟ لأن خصائصه الفريدة خلقت نوعا من الحرية التي تجعل الفواعل تفعل ما يتناسب مع مصلحتها دون رقيب وبدون مسؤوليات، فالعالم يشهد يوميا الآلاف من الهجمات السيبرانية بين الدول ولكن بما أنه لا وجود لسلطة مركزية تضبط كل هذه الأحداث وتتحكم فيها، أصبحت العلاقات الدولية السيبرانية تعيش حالة من الفوضى حتى بين الدول الحليفة.
فقد أثبت الفضاء السيبراني أنه لا وجود لشيء اسمه السلام الديموقراطي بين الدول، لأن هناك العديد من الدول الديموقراطية تتجسس على بعضها البعض، مثلا كانت الولايات المتحدة الأمريكية تستخدم برنامج بريزم PRISM الذي كشف عنه إدوراد سنودن العميل الإستخباراتي السابق في وكالة الأمن القومي وذكر أنه كان موجها للتجسس على العديد من المواطنين من النمسا، ألمانيا، فرنسا، البرازيل، المكسيك، السعودية، الهند، مصر، بالإضافة إلى التجسس على 53 رئيسا دوليا وكذا منظمة الأمم المتحدة والبنك الدولي وغيرهم، في الجهة المقابلة كشفت صحيفة دير شبيغل الألمانية في أوت 2014 أن ألمانيا كانت تتنصت على كثير من محادثات وزير الخارجية الأمريكي وكذلك تركيا، وهذا إن دل فإنما يدل على حالة عدم الثقة بين الدول الديموقراطية، وقد يبدوا واضحا من خلال ماسبق على أن الشك لازال هو الفكرة السائدة في العلاقات الدولية، وهو ما يؤكد نظرة الواقعيين لهذا العالم.
من جهة أخرى ينادي الواقعيون بأنه لا يمكن الإعتماد على دولة أخرى من أجل تحقيق البقاء، وتعتبر العلاقات الصينية الأمريكية اليوم أفضل مثال يشرح هذه الفكرة، فالجميع يدرك أن كلا الدولتين تعتمدان على شركة TSMC التايوانية من أجل تصنيع أشباه الموصلات والتي تستخدم بدورها في الصناعة الدفاعية وأجهزة الكمبيوتر والكثير من الأجهزة الإلكترونية المتقدمة الأخرى، فيما تعتبر الشركة التايوانية أهم شركة في العالم في هذا المجال كونها تستحوذ على أكبر إنتاج في العالم لأشباه الموصلات المتقدمة، بالتالي إن استقلال تايوان عن الصين، سيسبب مشكلة إضافية كبرى للصين ونفس الشيء بالنسبة للولايات المتحدة لو تم اعتبارها جزءا لا يتجزأ من الأراضي الصينية، كون منتجات هذه الشركة مرتبطة مباشرة بالأمن القومي لكلا الدولتين بصفة خاصة، بالتالي سيسعى كل طرف إلى استخدام كل الطرق من أجل تسيير هذا الملف حسب ما تقتضيه مصلحته الخاصة، لأن من غير الممكن أن تعتمد قوة عالمية على قوة عالمية أخرى منافسة من أجل الحصول على مواد ضرورية للصناعة العسكرية.
من خلال ماسبق يمكن القول بأن الفضاء السيبراني قد أكد على قوة التحليل الواقعي للسياسة الدولية، كما أن خصائصه الفريدة مثل السرية وصعوبة تحديد مصادر الهجمات وغياب الردع وانتشار الفوضى شكلت مجالا خصبا لازدهار الفكر الواقعي في هذا المجال.