تجليات الحياة والموت في غزة: فلسفة البقاء والصمود

لدى الجميع تصور ثابت ملائكي، وأسطوري، عن المناضلين خصوصا وعن أهل غزة عموما، بأنهم أولئك الزاهدون المتعبدون طوال اليوم. يد تمسك بالمصحف ويد تتشبث بالحجارة. قد يخيل لأولئك أن الغزيين لا يفعلون شيئا في الحياة غير انتظار الموت. حتى اذا رأوا أحد الغزيين يمارس شيئا من مظاهر الحياة الطبيعية الدنيوية استغربوا، ولربما استنكروا ذلك. ولقد شهدت أنا وغيري من أبناء المدينة القاطنين خارجها شيئا من تلك الاسقاطات. ربما كان من المتوقع منا أن نتوشح السواد لنرضي تأملات المشاهدين.


إن هذا ليس تصور ظالم فحسب، بل وأناني جدا في مضمونه. فكرة أن يعجبك أسلوب الحياة هذا من بعيد ويعطيك لذة من الشعور والتأمل في الزهد مفترضا ان هذا هو شكله الحقيقي. أن تموت في أي لحظة وتستعد للقاء خالقك وأنت مطمئن هو في الحقيقة اسقاط رغبتك أنت عن مفهوم البطولة وطهارة وتجلي الذات في أعذب صورها. بينما تنزع الطبيعة البشرية عن أولئك الذين فرض عليهم الموت في ظل شح الخيارات. أجد ذلك مشابها الى حد ما لأيديولوجية المحتل الإسرائيلي الذي يحاول في نفس الوقت أن ينتزع منهم انسانيتهم ويبيدهم جماعات جماعات. يبقى انتزاع الأرواح في غزة فعلا ظالما، حتى لو كان في غلافه براقا بأسامي ومعاني الشهادة وإعلاء كلمة الدين. أنت تشبه بذلك المحتل في اختزالك كل رغبات وأحلام وطموحات الغزي المكلوم في صورة شهيد تحتم عليه الموت عاجلا أم اجلا. يبدو ذلك أيضا نوعا من تخدير ضميرك أن تظن لوهلة أنهم أرادوا الموت ونالوه في سبيل الله. بدلا من أن تبحث عن أوجه الشبه بينك كإنسان وبينهم كمغلوبين على أمرهم، بدل أن تفكر في سبل انقاذهم الممكنة. الغزيون بشرٌ يخافون ويحزنون ويشتهون الحياة ويذنبون ويتوبون ويرغبون في كل الأمور التي تركض أنت ورائها. ولكنهم يحبون الحياة ما استطاعوا اليها سبيلا. واني لأرى كل البطولة في محاولاتهم المستمرة للنجاة. فهم يحبون دنيا الله ويدافعون عن نعمته المقدسة في حق العيش والحرية والتنعم في وطن آمن.


في مقاربة أعاينها باستمرار في ظل الأوضاع في غزة بين ما يسيطر على نفوس الفلسطينيين هناك وما يلمع على الشاشات من شعارات وطنية حماسية. المقاربة الأولى تكشف عن يأس كبير بين صفوف المواطنين في غزة والرغبة الصارخة بالنجاة والهروب من براثن القصف والدمار. أشاهد كتاباتهم، وأتذكر شعورا مررت به، بأني ولأجل مستقبلي لن أقبل أن أموت ببساطة، لن أموت بعمر صغير، ولن أموت دون ان أكتسب الوعي الكافي لأحدد قيمي ومعتقداتي في الحياة. وإن سمحت لي الظروف، فأنا خارجة من ذلك السجن الكبير عند أول فرصة. يستنكر البعض في غزة الحال المرير ويصرحون بأنك إن فتحت المعابر لهم لسيناء أو كدست البواخر على امتداد بحر غزة، لامتلأت الآن جميعها بالسكان الهاربين الى أوروبا الذين سيرفضون العودة تماما. يناشدون بأن “أرهقتنا سياسة التجويع الممنهجة ولم يبقى في غزة الا الدمار، تم تسوية المستشفيات والشوارع وكل المنظومة التعليمية في غزة بالأرض. عائلات مدنية كاملة مسحت من السجلات المدنية. أي حياة كريمة، أي وجود هش، أي مستقبل هذا الذي ينتظر الناجين هنا؟


ألاحظ أن البعض في غزة قد تزعزع صموده ولكنني لست هناك لأتيقن بأن هذا هو صوت الشارع الحقيقي. فهذه الحرب لا تشبه أي من الست حروبٍ التي نجوت منها. وفي نفس الوقت لا أنكر أنه ليس هنالك أبدا من يقبل الفقد والجوع والنزوح على الفور بسبب تركبية عقيدته الايمانية الاستثنائية. توجد عينات كبيرة من تلك في الحقيقة في غزة، ممن رفضوا النزوح الى مناطق يزعم بانها اكثر أمنا وفضلوا البقاء في منازلهم على تجربة النزوح بالغة الذل والمعاناة. وآمنوا بحقيقة شح الخيارات أمامهم. وأن الموت كجماعة واحدة هو الخيار الحتمي امامهم. لئلا ينتهي بهمك الحال في غرفة صفية معتمة ومتسخة بإحدى مدارس الأنروا، أو في خيمة متداعية، يتحتم مصيرها وساكنيها إما غرقا مع طوفان شتاء المدينة، أو فوق رمالها الحارقة صيفا.


مرة أخرى، لم أستطع دراسة الوضع بشكل دقيق، فهنالك الكثيرون ممن لا يستطيعون حتى الوصول لمواقع التواصل الاجتماعي للإدلاء بأي شيء يعبر عن حالهم وشعورهم. في المقابل، أتخيل الحال لو لم تكن هنالك مقاومة في غزة، أين سيمسي الوطن؟ لا استطيع تخيل الوضع اذا هلكت سواعد المقاومة يوما ما. إن القضاء عليها يعني أن يتغلغل المحتل في كل شبر من شوارع غزة. ويحكمنا بالحديد والنار. فكرة أن تضطر لرؤية وجهه القذر واستبداده كل يوم في طريقك الى المدرسة أو الجامعة أو العمل أو الى منزل قريب أو صديق أو حتى في طريقك الى البقالة هو بالفعل موت بطيء. وإنك لتود أن تموت مباشرة على أن تتعفن بطيئا في ظل سلطة الاحتلال واعوانه، أن تسلب منك هويتك وتعامل بعنصرية، أن يبصق الجندي في وجهك كل صباح ويشتمك ويشتم عروبتك وأنت جالس في سيارتك تتلاصق شفاهك بإحكام من دون أن تنبس بكلمة. أن تظلم وتتهم بجريمة لم ترتكبها اطلاقا وتزج بالسجن، كنت طفلا، امرأة أو كهلا عاجزا. كنت مريضا أو من ذوي الاحتياجات الخاصة، فنصيبك من الذل والقمع هو نفسه لن يتغير. إن مشروع السلام هذا الذي يغازله المجتمع الدولي او حتى العربي، هو في حد ذاته فكرة وجودية هشة، غير عقلانية البتة. لست أبالغ حين أقول أنك قد تتمنى موتا سريعا على أن تسحب روحك منك ببطء كل يوم حتى تشيخ مبكرا. أعتقد أن صمود الناس وعقائدهم متفاوت بشكل ما. لكن الفرق هنا، بأن هنالك من سأم من الحياة في ظل الحصار وأراد الموت بأسرع وقت. وهنالك من لم يسأم وطالب بالحياة الى آخر رمق، وكره الموت بأقل ثمن. وهنالك من يظن أن الموت في سبيل الله هو ما سيحرر الوطن، وأنه ان لم يضح بنفسه هو، فلن يفعلها غيره. فتجد هنالك من رمى بنفسه الى نيران المواجهة انتقاما من المحتل الذي سلبه أعز من يملك يوما ما.


ليس هنالك سطر واحد يعمم شعور أولئك الذين يقطنون قطاع غزة وإن دل ذلك على شيء، فهو يدل على أنهم بشر وأناس طبيعيون. وليسوا ملائكة منزلين بمعجزة ما قدر لهم أن يعيشوا نمطا واحدا من التضحيات لتحقيق قدر إلهي ما. هذا (الغزاوي) الذي ربما يعاني الان من مرحلة الصدمة، تجد كل ما يكترث له هو النجاة وحماية من تبقى له. لكن اتعلم، عزيزي القارئ، ما ينتظره بعد ذلك؟


تنتظره مرحلة ما بعد الصدمة، حينما تنتهي الحرب ويختفي التركيز الإعلامي عليه، ويترك حائرا بين الدمار والفقر والفقد. سيعيش من المعاناة والتهميش ما قد يدفعه الى الجنون. ولن يكون هناك من يستمع إليه. تلك هي الفرضية التي حاولت نقاشها؛ تبجيل معاناته كخبر عاجل أثناء الحروب فقط، وتركه ليقاسي ظلم الحياة ما بعدها.
أختم باقتباس لغسان كنفاني، إذ يقول، “الموت ليس أبدا قضية الميت، بل هو قضية الباقيين”.