النضال النسوي الفلسطيني… كيف يستعيد وهجه؟

في الواقع، لا يمكن إغفال الدور النضالي المهم الذي قامت به الحركة النسوية على مدار العهود الماضية، منذ بدء تشكل ملامح النضال النسوي المنظم في عشرينيات القرن المنصرم، وما تلى ذلك من عقد مؤتمر نسائي في القدس، نتيجة لثورة عام 1929، شاركت فيه آنذاك  حوالي 300 امرأة فلسطينية، سعى إلى النهوض بالعمل النسوي الفلسطيني، وتوطيد العلاقات مع الحركات النسائية الموجودة في الأقطار العربية المجاورة. 
تداخلت صيرورة تطور الحركة النسوية الفلسطينية مع مراحل حركة التحرر الوطني، كونها وُلدت من رحمها، ومارست دورًا مهمًا وحيويًا منذ بداية مقاومة الاستعمار البريطاني والاحتلال الإسرائيلي، تجلى هذا الدور في الانتفاضة الأولى في ثمانينيات القرن الماضي، من خلال تشكيل الأطر النسوية التابعة للقوى والفصائل الفلسطينية، وبذلك، أصبح عملها أكثر تنظيمًا ودقةً، وانعكس أيضًا على نشاطها في عموم فلسطين. 

إذن، كانت فاعلة ومؤثرة، المهم هو الآن. إلى أي مدى استطاعت أن تحافظ على دورها؟ هل تبدلت أولوياتها من نضالية تحررية إلى اجتماعية حقوقية اقتصادية؟ 
في الحقيقة، وللإنصاف، حاربت النساء الفلسطينيات على أكثر من جبهة، ودفعت أثمانًا كبرى، في سبيل تعزيز دورها النضالي والنهوض بمكانتها وما زالت، ورغم ما أنجزته من نضالات، إلا أنه لم يترجم إلى واقع حقيقي وملموس لا على صعيد العمل السياسي، ولا على صعيد المواقع القيادية في الأطر والأحزاب، ولا حتى على صعيد إقرار قوانين تضمن حقوقها، وهذا بطبيعة الحال مرده الهيمنة الذكورية، والموروثات الاجتماعية، والعشائرية والقائمة تطول.


لكن عند الإجابة عن هذين السؤالين المعقدين فعليًا، لا يمكن القفز عن التحول المهم الذي طرأ على العمل النسوي الفلسطيني في أعقاب مشروع أوسلو، وتشكل السلطة الفلسطينية، وتحديدًا مع ازدهار المراكز النسوية في سياق ظاهرة المجتمع المدني التي بدأت تتبلور، وتدخل السلطة في صياغة مكونات الحركة النسوية، والتحاق العديد منهن في وظائف السلطة، فضلًا عن التمويل وشروطه. هنا وقعت الحركة النسوية في مأزق حقيقي بين أولوياتها المرتبطة بالبرنامج النضالي لمقاومة الاحتلال، وهذا سبب وجودها أساسًا، وبين متطلبات المرحلة الجديدة التي كانت من المفترض أن تُفضي إلى “الاستقلال”.
للأسف، منذ نشوء أوسلو وحتى يومنا هذا، فُرّغ العمل النضالي من محتواه، ودخلت الحركة النسوية في معركة خسرت فيها كل ما بنته على مدار القرون المنصرمة، وانصب تركيزها على أجندة التطوير الاجتماعي، والتمكين الاقتصادي، وخوض صراعات مع السلطة لانتزاع حقوقها القانونية والسياسية والاجتماعية والحقوقية.


وعلى أهمية هذه المطالب وضرورتها إلا أن الأولوية للنضال التحرري طالما نقبع تحت احتلال يحاول إنهاء وجودنا. إذن، هل يمكن تصويب المسار؟ 
بالتأكيد نعم، هناك فرصة، خاصةً الآن مع وصول القضية الفلسطينية إلى منعطف خطير عقب طوفان الأقصى، وحرب الإبادة التي تمارسها “إسرائيل” بحق الشعب الفلسطيني، والتي بلا شك أعادت إنتاج الوعي الجمعي، فلسطينيًا بأهمية التحرر، وعربيًا ودوليًا بأهمية القضية الفلسطينية. لذلك، بات التغيير مطلوبًا وهدفًا. كيف؟ أولًا، إعادة تفعيل العمل النضالي من خلال إعادة هيكلة المؤسسات النسوية، والتحول إلى مؤسسات مستقلة تناضل من أجل التحرير بمفهومه الواسع، ومن ثم تحرير المرأة في المجالات كافة. ثانيًا، لا بد من عملية إصلاح شاملة في بنى المؤسسات النسوية تتضمن إفراز وجوه جديدة شابة. ثالثًا، على المجتمع المحلي أن يدعم ويمول أنشطتها مما يساهم في تحررها من قبضة الممول الأجنبي وشروطه وإضعاف سطوته. رابعًا، أن تكون قادرة على فرض رؤاها بما يتوائم مع السياق المجتمعي حتى على الممول نفسه. خامسًا، الانتفاض على الواقع الذي فُرض عليها، والمبادرة لخرق الهيئات التي هيمنت عليها الذكورية ومقاومتها، والأهم أن توحد جهودها وتعود إلى بوصلتها التحررية وتتمسك بخطاب التحرير. 
أخيرًا، هناك جيلًا من الشابات الفلسطينيات في فلسطين التاريخية بدأ يتنامى، يملك الأدوات التي تتناسب مع طبيعة المرحلة، ويجمع ما بين المطالب الوطنية والنسوية، لا بد من استثماره. فلكل مرحلة أدواتها ويبقى الهدف الرئيس “التحرير”. 
هل يمكن أن يجتمع جيل الخبرة مع جيل الأدوات؟ نعم ممكن والفارق سيكون كبيرًا، إذا وجدت الإرادة صار الفعل هينًا. الآن لا خيار ولا مجال للتردد أمام صراع الوجود، والتاريخ لن يرحم أحدًا. وفي الختام، لا يمكن خياطة الجروح دون تنظيف وتعقيم، وهذا ينطبق على واقعها أيضًا.