بين العبقريّةِ والتطرف: كيف نفهمُ الشخصيّةَ المُجرمة؟

“سرقَ برميثيوس النار من الآلهةِ وأعطاها للبشر، من أجلِ ذلكَ رُبطَ في جبال القوقاز، وحُكم عليه بالعذابِ الأبديّ.” يستعير كريستوفر نولان هذه الأسطورة من الميثولوجيا الغربيّة، ليضعنا على عتبةٍ أولى من قصّة اختراع القنبلة النووية، في فيلمه “أوبنهايمر”. لعلّ السؤال السابق هو ما تتمحور حوله فكرة الفلم الأساسية، لكن السؤال الأهم: هل نتحدث هنا عن نار القنبلة الحقيقية التي أشرف على صناعتها أوبنهايمر، أم أنها نار أخرى مجازية أشد إحراقًا وتدميرًا؟

قد يبدو لمن يشاهد الفلمَ أنّها قصّةٌ عن القنبلةِ نفسها، أو عن الظروفِ والسياقات التي أحاطت باختراعها واستخدامها ضدّ اليابان، وقد يقول البعضُ إنّ المخرجَ لم يولِ اهتمامًا بانفجار القنبلةِ نفسها بقدرِ ما جعلَ الفلم سيرةً غيريّةً طويلة، لسردِ أحداث حياة الأب الروحيّ للقنبلة، روبرت أوبنهايمر، تلك الشخصية المحوريّة في التاريخ الحديث، لكنّ نظرةً ثانيةً وثالثةً وأخيرةً معمّقة في طريقة كتابةِ الفلم والشخصيّة، تضعنا أمام فكرتين مهمّتين جدًا: الأولى أنّه يمكنُ دائمًا أن نعيدَ سردَ أحداث التاريخ، وتغييرَ روايته، إذا تعمّقنا في قراءة الذاتِ الواحدة، ثمّ استطعنا إعادةَ كتابتِها وصياغتها. والثانية هي أنّ الفلم ليس عن أوبنهايمر نفسِه، ولا عن قصّة حياته، إنّما عن نموذجِ الشخصية التي يمثّلها، أوبنهايمر والتي يمكن أن تُختصر بكلمتين: العبقريّة، والتطرف.

يبدأ الفلم بأن يضعك في سياق الحالة النفسية لأوبنهايمر: طالبٌ جامعيٌّ مضطرب نفسيًا، يعيشُ مرحلةً متقدمة من الاكتئاب والهلوسة بما وراء الواقع، يغرق في النظريّات والتجريد بينما هو عالقٌ في مختبرٍ وعملٍ تجريبيّ بائسٍ لا يُتقنه، يسخر منه أساتذته وزملاؤه رغمَ علامات نبوغه الواضحة، وامتلائه الخفيّ بنفسه وبقدرته. هذا الامتلاء بالنفس الذي حثّه على أن يحاول قتلَ أستاذه الذي يسخر منه بتسميم تفاحةٍ على مكتبه، والامتلاء نفسه الذي يبرّر له خياناته الزوجيّة والعاطفية المتكررة، والامتلاء ذاته الذي يجعله يركض أشعث الشعر بين المحاضراتِ في جامعاتٍ مختلفة، يبحث عن مكانٍ له في العالم، وليس أيّ مكان؛ نجده يختار الفيزياء الكميّة ليختصّ بها ويدرّسها رغم حداثة الميدان وجدّته في الولايات المتحدة في ذلك الوقت، لكنّها الرغبة الحادّة بالتميّز، تلك الرغبةُ في الظهورٍ التي تحدّد للشخصية دوافعها واختياراتها، وتجعل أوبنهايمر يتعلّم لغةً جديدةً تمامًا مثلًا، ليلقيَ بها محاضرةً واحدةً في بلدٍ أخرى بعيدة، فيدهشَ الجميع.

الآن، ماذا نتوقّع أن يحدث، حينَ نرى هذه الشخصيّة المضطربة الممتلئة بشعورٍ متضخّم بالذات و”الأنا”، تولى اهتمامًا غيرَ مسبوقٍ أو متوقّع، وتُختار به لتقودَ مشروعًا علميًا عسكريًا قوميًا ضخمًا، قد يحدّد مصيرَ الحرب العالميّة الثانية، والعالم كلّه في ذلك الوقت؟ هل يمكن أن نتوقع أن تكون البوصلة الأخلاقيّة لهذه الشخصيّة الموعودة بدخول التاريخ، افي أفضلِ حالاتها؟ هنا نكتبُ انطلاقةَ الشخصيّة، ونكتبُ معها كثيرًا من المبرّراتِ المتناقضة: لا يمكن ائتمان النازيين على قنبلةٍ نووية، لا يمكن أن ندع الآخرين يسبقوننا إلى امتلاك قوةٍ ذريّة، اليابان لن تستسلم ولا بدّ من ردعها، وإذا استسلمت بالفعل، فلا بدّ أن نصنع قنبلةً نوويةً على كل الأحوال لتكون كفيلةً بإنهاء كل الحروب، حتى إن كانت فرصةُ تدمير هذه القنبلة للعالم بأسره فرصةً مُحتملة. ينصح آينشتاين العجوز أوبنهايمر يائسًا: شارك اكتشافاتك مع الألمان. أخبرهم بخطورةِ المشروع برمّته، بأنّ احتمالات إشعال الغلاف الجويّ ليست صفرًا مُطلقًا، وأوقفوا هذا الجنون. لكنّ الذات الجامحة متى أطلقتها لا تتوقّف أو تتنازل بعد أن بدأت وذاقت حلاوةَ “أن تكون”.

لحظةُ إدراك الإمكانيّة عند البشر مرعبة. يسأل الجنرال غروفز أوبنهايمر قبل البدء بمشروع القنبلة: “إن كنت بهذا النبوغ، لماذا لم تحصل على جائزة نوبل حتى الآن؟” ويجيبه أوبنهايمر قبل أن ينهضَ إلى سبورته ويبدأ التخطيط لإدارة مشروع مانهاتن قائلًا: “قد أحصل عليها بعد هذا المشروع”. نجده يرتدي الزيّ العسكريّ في بدايات إنشاء المشروع في “لوس ألاموس”، ثم يعود لاختيار هندامٍ يليقُ بذاته الجديدة التي يتصاعد شعورها بنفسها. لكنّ هذا الشعور بالتوهّج لن يدوم طويلًا مع اقترابِ اللحظة الحاسمة. حين توضع العواقب على الطاولة، وأصوات الضمير والمنطق التي كانت مغيبةً ضبابيةً في لحظة الحماسِ والاندفاع تتضح شيئًا فشيئًا، يقتربُ العلماء من أوبنهايمر ويحاولون أن يدفعوه إلى التخلّي عن إنجازه الكبير المريع، النازيون استسلموا، اليابان على شفا حفرةٍ من الاستسلام، يمكنك إقناع الحكومة الأمريكية بالعدول عن إطلاق القنبلة وإزهاق مئات آلاف الأرواح بلا سببٍ حقيقيّ، يبدأ صوت المنطق والضمير بالارتفاع شيئًا فشيئًا فيتصاعد معه الندم وتتوسّع معه الفجوة النفسيّة بين الشعور بالإنجاز والشعور بملمس الدماء الحقيقي على يديك، الدماء التي يقترحُ الرئيس الأمريكي عليكَ بسخريةٍ أن تمسحها بمنديلٍ وتمضي، التاريخ لن يأبه بك، البشريّة لن تتسامحَ مع صنيعك، حتى إن ظننتَ سابقًا إنّ الذكاء والألمعية تغطي على كثيرٍ من اللاأخلاقية.

“الدافع” في كلّ قصةٍ عنصرٌ أساسيّ في كتابتها، ما الذي يريده هذا الشخص من العالم؟ ما الذي يبحث عنه بهذه الشراسة؟ مع تطوّر الأحداث نستطيع أن نرى تسارعَ صعود الطموح الشخصيّ لأوبنهايمر، ما يبحث عنه هذا الرجلُ الفذّ الهادئ لم يكن أيًا من المبررات التي قرّرها لصناعةِ القنبلة أو الإشراف على المشروع النووي الأمريكي برمته، لم يكن دافعه مسابقةَ النازيين -بمن فيهم نظيرُه الفيزيائي الشهير هايزنبرغ-، ولم يكن دافعه الأساسيّ حين أصرّ على الاستمرار بالمشروع أن تنتصر أمريكا التي يحبّ، بل كان شيئًا أبعدَ من ذلك وأضيَق، إنّه يبحث عن “القيمة”، هذه القيمة الإنسانيّة التي يرغب في أن تكونَ وتتحقّقَ لعبقريته ونبوغه، يريد أن يحظى ذكاؤه أخيرًا بانتباهٍ يتجاوز غرفةَ المحاضراتِ وجدران الجامعات الكثيرة التي ركض بينها، ثمّ يتجاوز الآخرين كلّهم: يتخطّى عبقريّة آينشتاين نفسه الذي قال عنه إنّه كان فذًا في زمانه، ويتخطى زملاءه الذين يشرف عليهم، ويتخطى من يُمكن له أن يتخطاه في المستقبل، إدوارد تيللر الذي أراد أن يشرع بدراسات القنبلة الهيدروجينية، ثمّ وجدنا أوبنهايمر يتصدّى لكل بذرةٍ يمكن أن ينبت عنها مشروعٌ يغطّي بظلاله على مشروعه الكبير. قد يقرأ الآخرون مشهد معارضة أوبنهايمر لصناعة القنبلة الهيدروجينية على أنّه ندمٌ فظيع على ما تسبّبت به قنبلته النووية، لكنّنا نعودُ في التاريخ وفي سلسلة الأحداث لنجده يقف في طريقِها كلّما أتت لجنة الطاقة الذرية على ذكرها، حتى قبل إطلاق القنبلة النووية على هيروشيما وناغازاكي؛ مكتفيًا بالقول إنّ أرقام ومعادلات تيللر، لم تكن عمليّةً بما يكفي. إنّ مشهدَ المحاكمةِ الأخير، في تلك الغرفةِ الصغيرة الضيّقة، لم يكن إلا تأكيدًا على أنّ التذبذب الأخلاقيّ لأوبنهايمر في إصراره على المشروع النووي، ثمّ معارضته الشديدة لمشروع القنبلة الهيدروجينية، لم يكن إلا رغبةً دفينةً بالاحتفاظ الغيورٍ بالإرث التاريخيّ لهذا الإنجاز المريع، وإن حاولت الحكومة الأمريكية المكارثية في ذلك الحين، وصمَ هذا التذبذب بوصفٍ ظاهره الخيانة، والعمالةُ للمعسكر الشيوعيّ السوفييتيّ، وباطنه نرجسية عميقة وتضخم في الذات يطغى على كل شيء.

“العبقريّةٌ ليست ضمانةً للحكمة”. بهذه الجملة يصفُ لويس ستراوس خصمَه أوبنهايمر. ورغمَ أنّها عبارةٌ متحيّزة نظرًا للعداوةِ بينَ الشخصيّتين، إلا أنّها كانت صادقةً في وصفِ ما تدور حوله فكرة الفيلم. صراعُ الضمير أمام ضرورات الحرب، وسؤالنا: هل كان هذا الدمار ضرورةً حقًا بعد كلّ شيء؟ هل كان يمكن أن يُتفادى كثيرٌ من الأسى والظلم لو كبحَ الذكاءُ جماحه عن الأذى والتواطؤ مع شيطان المصالح السياسيّة؟ أم هل كان يمكن أن يتفادى الصراع من أصله لو قرّر العبقريّ الفذّ الخروج من تلك الرماديّة المتذبذبة، والتوقف عن اختلاق المبررات لتكون محرّكاتٍ لعجلةِ صناعة المجد الشخصيّ؟ هل كان يمكن أن تُنقذ مئات الآلاف من الأرواح البريئة لو لم يكن الصراع بهذه الحدة ما بين الطموح والضمير؟

إنّها قصةٌ عن ضبطِ النّفس العبقرية عن التطرف في الجموح. قصّةٌ نموذجيّة تخبرنا عن عواقبِ توظيف الذكاء والبراعةِ في غيرِ محلّهما، وكيفَ أنّ النّفسَ البشريةَ إذا لم تسيطر على شعورها المتضخّم بذاتها خليقةٌ بأن تنطلقَ في ثورةٍ عشوائيّةٍ، وأنّ عواقبَ التميّز قد تتطاولُ فتطالُ البشرَ والشجرَ والحجر، ثمَّ لا تتوقفُ حتى إن كان ثمنُ توهّجها أن تُحرقَ العالمَ بأسره. إنها قصّةٌ عن مسؤوليّةِ الاختيار، عن أخلاقيّةِ القدرة، عن المواجهة الأزليّة بين الطموح الفرديّ والضميرِ الداخلي، وعن أنّ السعيَ الحثيثَ للخلودَ التاريخي ليس بالضرورةِ أن يُفضيَ إلى خلودٍ محمود، وكما قالَ رجلٌ حكيمٌ ذات مرة: “إنّ مواهبَنا ليست هي ما يصنع حقيقتنا، إنّما هي خياراتنا التي نختارُ بها ماذا نصنعُ بهذه الموهبة.”