“غزّة” ابنة تاريخ طويل، شهدت صروف الدهر المتقلبة، واعتبرها نابليون: “بوابة آسيا، ومدخل إفريقيا”؛ احتفظت باسمها ومنزلتها، رغم كل ما مرّ بها من حوادث، وتعاقَب عليها من ملوك وغزاة وطامعين. ووصفها المؤرخ المقدسي عارف العارف في كتابه (تاريخ غزة): “غزّة ليست وليدة عصرٍ من العصور، وإنما هي بنت الأجيال المنصرمة كلها.. لم يبق فاتح ولا غازٍ، إلا ونازلتْه، فإمّا يكون قد صرعها، أو تكون هي قد صرعتْه”.
غزّة.. المكان والمعنى
في المنطقة الجنوبية من الساحل الفلسطيني على البحر الأبيض المتوسط، وعلى مساحة لا تزيد عن 360 كم2 تتربع مدينة غزّة. وقد بُنيت على تلٍ يرتفع زهاء (45م) فوق سطح البحر، وعلى حافة الأراضي الخصبة، التي تأتي مباشرة بعد برّية سيناء، لتكون المحطة الطبيعية لكل القادمين من مصر، ووجهتهم إلى الشام، ومن الشام إلى مصر.
تبدل اسم “غزّة” بتبدل الممالك والقوى التي استولت عليها، فقد كان الكنعانيون يسمونها “هزاتي”، والعبرانيون “عزة”، والفرس “هازاتو”، وسماها المصريون القدامى “غاداتو”. وفي المعجم اليوناني “أيوني”، وعند الأتراك “غزة”، وعند الإنجليز “غازا”. وسماها العرب المسلمون “غزة” أو “غزة هاشم”. فقد ارتبط اسم “غزّة” عند العرب، باسم هاشم بن عبد مناف الذي مات فيها، وهو عائد بتجارته منها نحو مكة عام 524م، إذ كانت غزة محط رِحاله، ومأوى ضريحه، ولم يغب عن أهل غزة تقدير ذلك الشرف، والرابطة بينهم وبين قريش ومكة، حيث تأوي مدينتهم ضريح الجد الثاني للرسول الكريم محمد (صلى الله عليه وسلم)، وسموا أكبر مساجدهم باسمه. كما ولد في هذه المدينة أحد أئمة الإسلام وفقهائها الكبار، وهو الإمام محمد بن إدريس الشافعي (رحمه الله).
وذَكر ياقوت الحموي غزّة في كتابه (معجم البلدان): “غزّة مدينة في أقصى الشام من ناحية مصر، وغزة كانت امرأة صور الذي بنى صور مدينة الساحل قريبة من البحر، والشام حدها من الفرات إلى العريش المتاخم للديار المصرية”. وعلى هذا النحو يذهب ابن بطوطة في رحلته، فيقول: “ثم سِرنا حتى وصلنا إلى مدينة غزة، وهي أول بلاد الشام مما يلي مصر، متسعة الأقطار، كثيرة العمارة، حسنة الأسواق، بها المساجد الكثيرة، والأسوار عليها”.
وإن المؤرخ المقدسي عارف العارف (ت: 1973م)، يُورد في كتابه احتمالات عدة لمعنى اسم غزّة، فقد يكون من القوة والمنعة والشدة، وقد يكون من الثروة، وفيما يستصوب العارف الرأي الأول، فإن المؤرخ الفلسطيني مصطفى مراد الدباغ في حاشية موسوعته عن الديار الغزّية، يُرجح المعنى بين المخزن والكنز، وما يمكن ادخاره، وهذا رأي أخذ به المؤرخ اللبناني أنيس فريحة في كتابه “أسماء المدن والقرى اللبنانية وتفسير معانيها”.
غزّة في المصادر والوثائق التاريخية
سعى المؤرخون والرحالة والرواة إلى تدوين تاريخ غزّة، واعتمد المؤرخون المعاصرون في تأريخ غزّة، على معجم البلدان لياقوت الحموي، وفتوح الشام للواقدي، وفتوح البلدان للبلاذري، والسلوك لمعرفة الملوك للمقريزي، وخطط الشام لمحمد كرد علي، والمحفوظات الملكية المصرية، وتاريخ مدينة غزة لإم. أي. ماير، وكتاب غزّة للفرنسي شارلز كليرمونت جانيي، ومؤلفات عديدة ذات صلة بتاريخ غزّة، باللغات العربية والانجليزية والفرنسية والتركية.
ومن الكتابات الحديثة التي دوّنت التاريخ الغزّي، كتاب عارف العارف “تاريخ غزة”، وهو الذي شغل منصب قائم مقام غزّة في الفترة بين 1940 – 1944م، وكتابه في 356 صفحة، تناول فيه تاريخ غزة متسلسلًا زمانيًا، فبدأ بالحديث عن موقعها، وأهميتها التاريخية، وأسمائها التاريخية المختلفة، ومعنى كل اسم منها، ثم انتقل للحديث عن بناة غزة الأولين والشعوب التي سكنتها منذ القدم والعصور التاريخية التي مرت عليها والدول التي حكمتها حتى الفتح الإسلامي. وتحدث بإسهاب عن فترة الحكم العثماني حتى الانتداب البريطاني.
وهناك كتاب “تحفة الأعزّة في تاريخ غزّة”، للشيخ عثمان الطباع (ت: 1950)، وهو أحد أبرز المؤرخين الفلسطينيين الذين كتبوا عن غزة، وتاريخها الاجتماعي والثقافي في النصف الأول من القرن العشرين. وكتاب “غزة وقطاعها” لسليم المبيض عام 1987م، وتناول في كتابه الجغرافيا وحضارة سكان غزّة من العصر الحجري الحديث حتى الحرب العالمية الأولى في 500 صفحة.
واعتبر أكبر هجوم على إسرائيل في تاريخها، وبلغت خسائر إسرائيل البشرية ما يزيد عن 2000 مستوطن وجندي، وأكثر من 2500 جريحاً، ونحو 240 أسيراً إسرائيلياً في غزّة، وخسائر مادية بمليارات الدولارات نتيجة ضرب البنى التحتية للمستوطنات، وهروب المستوطنين، وشلل الاقتصاد الإسرائيلي. ولكن الرد الإسرائيلي بما سمته عملية “السيوف الحديدية”، وبغطاء عسكري ومالي وسياسي أمريكي وأوروبي ضخم، ليكون المدنيين الأبرياء في غزّة الضحايا لهذه الحرب. وأدى الانتقام الإسرائيلي لمقتل أكثر من 8000 فلسطيني، وإصابة أكثر من 20 ألفاً من المدنيين، حسب مصادر طبية فلسطينية، وتدمير عدد كبير من المساجد والكنائس والمستشفيات، والمراكز الإغاثية، والمدارس، والأحياء السكنية، وتجمعات النازحين. وأعلنت إسرائيل عن هدفها بالقضاء على المقاومة الفلسطينية في غزّة، وتهجير أهل غزّة الفلسطينيين إلى صحراء سيناء في مصر.
غزّة؛ المدينة التي تمنى رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحاق رابين أن يصحو يوماً، فيجد البحر قد ابتلعها، لكن غزة والبحر رضعا لبان التاريخ والقوة والمنعة قبل وجود إسرائيل بقرون، ويحضرها حديث بنيامين نتنياهو في كتابه “مكان تحت الشمس” عن حوار دار بينه وبين رجل فلسطيني عجوز من مخيم جباليا الغزاوي: نتنياهو: من أين أنت؟ الفلسطيني: من المجدل (مستوطنة أشكلون). نتنياهو: هل ستعود إلى المجدل؟ الفلسطيني: إن شاء الله يَحل السلام، ونعود إلى المجدل. نتنياهو: إن شاء الله يَحل السلام، وأنت تزور المجدل، ونحن نزور جباليا، فردّ الفلسطيني: نحن نعود إلى المجدل، وأنتم تعودون إلى بولندا. انتهى الحوار.