لإدوارد سعيد في كتابه “المثقف والسلطة” عبارةٌ يقول فيها:
“إنّ الذي لم يعد له وطنٌ يتّخذ من الكتابة وطنًا يعيش فيه.”
وهو يذكر الكتابةَ هنا بوصفها فعلًا ثوريًا بحد ذاته ورمزيّته على الواقع المعاش في الحقيقة.
تأخذك الكتابةُ بعيدًا عن شواطئ التفكير المعتادةِ الآمنة لأنها تسمح لك بتشكيل الفكرة مرّاتٍ قبل أن تُقال أو تُقرَأ، ويعطيك هذا شعورًا -قد يكون واهمًا- بالسيطرة وبالإمساك بزمام الأمور.
من أين تأتي الرغبة الشديدة في السيطرة على الأفكار والأحداث إذًا؟
الإجابة القصيرة هي المعاناة. والإجابة الأطول هي أنّنا بشر. ومن التداخل بين الإجابتين نجدُ المعنى.
كونك كائنًا بشريًا يعني أنّ ثمة سيلًا من الأسئلة يجري في دماغك حول كلّ شيء. هذه الأسئلة تتجمّع لتخلق لكَ امتحانًا طويلًا من آلاف الصفحات، وكلّما استخدمتَ الكتابةَ أو ما وازاها من فنونٍ للتعبير والتفكير والتغيير، تقلّص حجم معاناتك مع الأسئلة.
لا أريد لهذا أن يبدو وكأنه تسويقٌ لعملية الكتابة على أنّها ترياقٌ ناجعٌ دائمًا في حلّ المشكلات وإيجاد الإجابات، فالكتابة عمليّة ذهنيّة مرهقة تتطلّب توظيف عددٍ لا بأس به من مهارات التفكير العليا لدى الإنسان داخل عشرات ملايين الخلايا في دماغه الذي يصبو إلى إبداعٍ يُميّز له فكرته. لكنّ الحقيقةَ هي أن الكتابةَ لا تتوقف عند حدّ وظيفيّ معين، ولا ينبغي أن نعاملها على أنها ضمانةٌ لأن تُصيبنا صيحة أرخميدس “وجدتُها”!
أضع إلى جانب فراشي دفترًا وقلمًا كلّ ليلة منذ كان عمري ١٠ سنوات (ربّما)، أكتب الفكرة الأولى التي ترد في ذهني وتجرّها بقية الأفكار التي تتوارد مثل قطارٍ يهشّم كل خلايا دماغي بسرعة لا أفهمها. ما تفعله الكتابة هي أنّها تخفّف سرعةَ القطار، تضع له مكابحَ من ورق. كأنّي صوتٌ يحاول ملاحقة الضوء. ينجح الأمر أحيانًا ويفشل أحيانًا أكثر. لكنّ ما أستطيع تأكيده هو أنّ فعل الكتابةِ فعلُ إنقاذ. إنّها هناك لنمسكَ أنفسَنا من أكتافنا ونهزّها، بينما نصارع لإبقائها في موضعها بلا سقوط.
الكتابةُ فعلُ إنقاذٍ إذًا. إنّها تنقذك من نفسك التي تحاصركَ بكثيرٍ من الاستفسارات والأصواتِ والرغبات، ترتّب لك الضجيج والفوضى في أسطر مرتبة داخل دفترٍ أو كتابٍ من دفّتين.
إذا علمتَ أنّ الكتابةَ فعلُ إنقاذ، عرفت من أين تستلهمها. تستلهمها من كلّ تفصيلٍ صغيرٍ يمرّ في يومك. من الإلهام الذي يأتيك من أنّك فتحت عينيك في الصّباح إلى الإحباط الذي تحسّه إذا غطّت غيمةٌ ماطرةٌ الشمسَ في نهارِ رحلةٍ إلى الحقول. من النبتة الصغيرة التي تربّيها في القبو إلى مديركَ السيّئ في عملٍ تخشى الانفكاك عنه، لأنك لا تعرف إلى أين تذهب.
إلى أين نذهب؟
نذهبُ إلى أن نتعلّم أساسات الكتابة وأنواعها وأشكالها وفنونها. ثمّ نبدأ. ابدأ بأن تخطّ لنفسك مذكراتٍ يوميّة تسردُ فيها تفاصيلك ومواقفك وذكرياتك -حتى إن وجدتها تافهةً- ، ومُرَّ بأن تصوغ موقفًا ما في قالب قصّةٍ تريد أن تخبرنا بها، وانتهِ بأن تُخرج لنا ما تجود به نفسك على العالم من إعادة تشكيلٍ لمفردات الأرض والحياة والإنسان.